ثقافة وفنمقالات واراء

دردشة صيف : 2023م محمد حسن الوزاني : مواقف وأفكار ( الحلقة الخامسة )

مولاي علي الخاميري – أستاذ جامعي /مكتب مراكش

الحلقة الخامسة :

من باب الدأب كنت أعمل على نشر مقالات خفيفة تناسب زمن الصيف ، تتوخى التعريف ببعض المنجزات الفكرية العامة التي تتحدث عن مجريات الفعل السياسي المغربي إبان فترة الحماية والاستعمار وطلائع أزمنة الاستقلال .

في صيف السنة الماضية ( 2022م ) قضينا أوقاتا ماتعة مع مؤلف الأستاذ أحمد بن سودة : ( حديث المفتي ) وفي صيفنا هذا سنواصل المسير برؤية تتكامل ، وتجمع الحِقَب الزمنية المتتالية ، وسنخصص حديثنا فيه لعلَم فَذٍّ من أعلام الفكر والسياسة الوطنية على مدى سنوات الحماية والاستقلال ، والمقصود هنا هو الأستاذ محمد حسن أو بلحسن الوزاني رحمه الله ( 1910 \ 1978م ) .

الحلقة الخامسة : الأجرأة العملية : قراءة الوزاني للتجربة الدستورية المغربية .

قراءة الوزاني للتجربة الدستورية في عهده
مثلت نموذجا تطبيقيا لما كان أعلن عليه في مختلف مواقفه وكتاباته حول الدستور وحقيقته ووظائفه المأمولة .

وانطلق من مضامين دستور دجنبر 1962م الذي أخذ عليه مجموعة من المآخذ المختلفة ، تناقض معاني الدستور ، وتتعارض مع قيام الملكية الدستورية كما يراها الوزاني رحمه الله .

موقف الوزاني بين دستور 1962 ونسخة التعديل له لسنة 1970م تغير تحت تأثير عوامل فكرية وواقعية عديدة ومتنوعة ، فقد دعا إلى الإمساك عن الأول والتصويت الإيجابي عن الثاني ، والمتأمل سيرى أن رفضه للأول كان بسبب شبهة المنحة ، إذ لم يصدر عن مجلس تأسيسي منتخب كما يشترط الوزاني ، في حين موافقته على الثاني بعدما مَرَّ المغرب من حالة الاستثناء المؤقتة والطويلة ما بين يونيو 1965 ويوليوز 1970م كان بسبب الخوف من أن يصبح المؤقت دائما ، والحَثِّ على عودة الملكية الدستورية عِوضا عن الملكية غير المفيدة بأية وثيقة تجمعها بعلاقتها مع الشعب .

ومن مؤاخذاته كذلك على دستور 1962م أنه لا يتيح للحكومة فرصة التقرير والتخطيط وممارسة السياسة العامة ، ولهذا تساءل الوزاني عن سلطة أو سلطات الحكومة….أين تكمن ، وكيف تمارس ؟ ما دام أن الملك يجمع في شخصه بين الرئاستين : رئاسة الدولة ورئاسة الحكومة ولو مع وجود وزير أول .

ولهذا الوضع المٌلتَبِس نتائج سلبية لأن الحركية المطلوبة في أعضاء الحكومة لن تكون جدية وإيجابية ما دام ولاؤهم يكون للملك الذي يتفضل عليهم بالاختيار والتعيين أكثر من العمل الحكومي ، وما دام أنهم لا يراقبون من جهة أداء مهامهم من لدن الهيئات الشعبية المنتخبة ، يقول الوزاني : ( ولقد كان يظن أن الدستور سيأتي بحلها الصالح – أي صفة ووضعية الحكومة دستوريا كما تقدم – ولكنه أقرها ونظمها ودَسْتَرَها….وبالرغم من هذا ظلت أزمة الحكم والسياسة هي هي ، ولا تزال هي أم الأزمات ، وأم المشاكل التي يتخبط فيها المغرب منذ فجر الاستقلال………) .

ومن النتائج السلبية لهذا الوضع ما أشار إليه الوزاني بتضخيم عدد الوزراء وكُتَّاب الدولة سيرا على مبدأ ( خلق الوظيفة للعضو ، لا خلق العضو للوظيفة ) فكل وزير كما يقول الدكتور علي حسن في كتابه : ( محمد حسن الوزاني وإشكالية البناء الديمقراطي 1947 / 1978 : ( يمكنه أن ينتقل من وزارة إلى أخرى وكأنه كُفء لجميعها ، وتلك إحدى أوجه العبقرية المغربية في ميدان المسؤولية والحكم ) .

وتبقى مسألة الثقة المزدوجة ، وغلبة ثقة الملك على ثقة الهيئات الشعبية من المشاكل التي عالجها الوزاني وهو يقرأ دستور 1962م فهو يرى أن ثقة الملك تقوم على الاختيار والتعيين في المنصب الحكومي ، وأما ثقة مجلس النواب فتجد مبررها في قيام الحكومة بجميع واجباتها ، وأداء مسؤولياتها في نطاق السياسة المرسومة التي تحظى بموافقة وتأييد المجلس النيابي تبعا لما جاء في الفصل 65 من الدستور المذكور .

وقد تطور موقف الوزاني إلى درجة اعتبار النظام السياسي المغربي منافيا لوصف الملكية الدستورية ، فلا يمكن نسبته ( إلى الملكية الدستورية التي هي نظام سياسي معين ، له قواعده وخصائصه وميزاته ، وفي نطاقه تتقيد الملكية بقيود معروفة ، وتمارس سلطتًها في حدود لا تتعداها ، ولا يكفي أن تُزود الملكية بدستور لتصبح الملكية فيها دستورية ، وكل ما في الأمر أن الملكية تتدستر من غير أن تصير إسما ومسمى ) .

وتصور محمد الوزاني للدستور وللملكية الدستورية إيجابا وسلبا استفاده من مطالعاته العريضة على تجارب الدول الحديثة الدستورية ، وفي هذا الصدد قام بمقارنات بين دستور 1962م وبين دستور فِيمَار بألمانيا ما بعد الحرب العالمية الأولى ، ودستور الجمهورية الخامسة بفرنسا 1958م ، وخلص إلى قول مفيد ، فحواه رفض ( الوسيلة التي تمكن كل طاغية ودكتاتور كهتلر من تلافي المداولات البرلمانية التي تستطيع بواسطة رجال خبراء وأكفاء أن تكشف ما تخفيه فصول وعبارات أي مشروع دستوري صادر عن الحكومة من أسرار مدسوسة ، ونوايا سيئة…….) .

وانتهى به المطاف في هذا المبحث إلى اعتبارين كبيرين :

الاعتبار الأول هو فهمه للدستور على أنه قانون وضعي لا سماوي ، وبهذه الصفة فإنه قابل حتما لكل تغيير ، وتوجيه يتماشى مع تطورات الحياة الجديدة ، وتطورات الأحداث المتجددة في كل المجالات ، فالحياة ترفض الجمود وإلا لما تطورت وتجددت .

الاعتبار الثاني مكمل للأول ويبدأ مما انتهى إليه سابقه ، فسيمة الوضع في الدساتير الحديثة تجعل قيمته لا تتحدد فيما ينص عليه من قواعد وأحكام فقط ، وإنما لا بد من إضافة فوائد التجربة في ميدان التطبيق والعمل ، فبهذا يمكن الحكم للدستور أو عليه من خلال ملاحظة أداء التجربة النيابية ونجاعتها وصلاحها وتأثيرها على العباد والأوطان ، وإحداثها للتطور والرقي المطلوبين على أرض الواقع .

إن محمد حسن الوزاني بكل هذه التخريجات والمتابعات والتنبيهات كان طامحا وخائفا في الوقت نفسه على مستوى الفكر وأحداث الواقع ، فقد بذل مجهودات جبارة للإفصاح عن مزايا الحياة الدستورية الحديثة ، وتجلياتها المختلفة ، ودعا إليها بحسن نية ويقين ومعرفة ، واستطاع أن يكون واحدا من فرسانها الكبار في زمنه ، ودفعته إلى مواقف متبدلة ومتغيرة تبعا لما آلت إليه قناعاته الذاتية والفكرية في ختام كل تقييم لأي تجربة عاش ظروفَها ومعطياتٍها المختلفة ، ويكفيه أنه ترك لنا إرثا فكريا وثقافيا في مجال الثقافة الدستورية لا زال يُعتَدُّ به إلى الآن ، ويشهد على حقبة مرت على تاريخ المغرب الحديث أنجبت لنا مثل الوزاني رحمه الله في معرفته وبلائه المستميت من أجل وطن مفقود ومأمول في الوقت ذاته كان يحلم به في ذهنه ودواخله ، ويسعى لتجسيده على أرض الواقع .

( يتبع )
.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock